فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره، بحيث يرى الأجزاء، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور. اهـ.

.قال الفخر:

روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءًا جزءًا وخلط دمائها ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعًا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله تعالى، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله تعالى: {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا} فقيل عدوًا ومشيًا على أرجلهن، لأن ذلك أبلغ في الحجة، وقيل طيرانًا وليس يصح، لأنه لا يقال للطير إذا طار: سعى، ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة، فإن كانت الحركة طيرانًا فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ثم ادعهنّ يأتينك سعيًا} أمره بدعائهنّ وهنّ أموات، ليكون أعظم له في الآية، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتيانهنّ إليه، والسعي هو: الإسراع في الشيء.
وقال الخليل: لا يقال سعى الطائر، يعنى على سبيل المجاز، فيقال: وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهنّ فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي، وكان إتيانهنّ مسرعات في المشي أبلغ في الآية، إذ اتيانهنّ إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهنّ من الطيران، وليظهر بذلك عظم الآية، إذ أخبره أنهنّ يأتين على خلاف عادتهنّ من الطيران، فكان كذلك.
وجعل سيرهنّ إليه سعيًا، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه، لإظهار جدها في قصد إبراهيم، وإجابة دعوته.
وانتصاب: سعيًا، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور، أي: ساعيات، وروي عن الخليل: أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعيًا.
فعلى هذا يكون مصدرًا لفعل محذوف، هو في موضع الحال من الكاف، وكان المعنى: يأتينك وأنت ساع إليهنّ، أي يكون منهنّ إتيان إليك، ومنك سعي إليهنّ، فتلتقي بهنّ.
والوجه الأول أظهر، وقيل: انتصب: سعيًا، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما أراه سبحانه وتعالى ملكوت الأرض صارت تلك الرؤية علمًا على عزة الله من وراء الملكوت في محل الجبروت فقال: {واعلم أن الله} أي المحيط علمًا وقدرة {عزيز} ولما كان للعزة صولة لا تقوى لها فطر المخترعين نزل تعالى الخطاب إلى محل حكمته فقال: {حكيم} فكان فيه إشعار بأنه سبحانه وتعالى جعل الأشياء بعضها من بعض كائنة وبعضها إلى بعض عامدة وبعضها من ذلك البعض معادة {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55] وهذه الحكمة التي أشار إليها اسمه الحكيم حكمة ملكوتية جامعة لوصلة ما بين حكمة الدنيا وحكمة الآخرة، لأن الحكيم بالحقيقة ليس من علمه الله حكمة الدنيا وألبس عليه جعله لها بل ذلك جاهلها كما تقدم، إنما الحكيم الذي أشهده الله حكمة الدنيا أرضًا وأفلاكًا ونجومًا وآفاقًا وموالد وتوالدًا، وأشهده أنه حكيمها، ومزج له علم حكمة موجود الدنيا بعلم حكمة موجود الآخرة، وأراه كيفية توالج الحكمتين بعضها في بعض ومآل بعضها إلى بعض حتى يشهد دوران الأشياء في حكمة أمر الآخرة التي هي غيب الدنيا إلى مشهود حكمة الدنيا ثم إلى مشهود حكمة الآخرة كذلك عودًا على بدء وبدءًا على عود في ظهور غيب الإبداء إلى مشهوده وفي عود مشهوده إلى غيبه {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [غافر: 11] كذلك إلى المعاد الأعظم الإنساني {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} [التغابن: 9] فهذا هو الحكيم المتوسط الحكمة، ثم وراء ذلك أمر آخر من على أمر الله في متعالي تجلياته بأسماء وأوصاف يتعالى ويتعاظم للمؤمنين ويتبارك ويستعلن للموقنين الموحدين، فله سبحانه وتعالى العزّة في خلقه وأمره وله الحكمة في خلقه وأمره ومن ورائها كلمته التي لا ينفد تفصيل حكمها {قل لو كان البحر مدادًا} [الكهف: 109] وكلماته لا تحد ولا تعد {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27]، فهو العزيز الحكيم العلي العظيم- انتهى.
وهو أعلى من الجوهر الثمين وقد لاح بهذا أن قصد الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين بل إلى حق اليقين، وكأنه عد المرتبة الدنيا من الطمأنينة بالنسبة إلى العليا عدمًا، وقيل: بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيي ولكنه طلبها تلويحًا فأجيب بالمنع منها بوصف العزة تلويحًا، وموسى عليه الصلاة والسلام لما سأل تصريحًا أجيب تصريحًا، وسؤال الخليل عليه الصلاة والسلام ليس على وجه الشك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» يرشد إلى ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك، وإذا انتفى الشك عن الأحق انتفى الشك عن غيره من باب الأولى، ولئن سلمنا فالمراد أنه فعل مثل ما يفعل الشاك إطلاقًا لاسم الملزوم على اللازم في الجملة، وأما نفس الشك فقد نفاه القرآن عنه صلى الله عليه وسلم تصريحًا بقوله: {بلى} وتلويحًا بكون هذه الآية عقب آية محاجته لذلك الذي بهت، نقل أن الشيخ أحمد أخا حجة الإسلام الغزالي سئل أيما أعلى المقام الإبراهيمي في سؤال الطمأنينة أو المقام العلوي القائل: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا؟ فقال: الإبراهيمي لقوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14]. اهـ.

.قال أبو حيان:

{واعلم أن الله عزيز حكيم} عزيز لا يمتنع عليه ما يريد، حكيم فيما يريد ويمثل، والعزة تتضمن القدرة، لأن الغلبة تكون عن العزة.
وقيل: عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات، حكيم في نشر العظام الرفاة. اهـ.
وقال أبو حيان:
وقد تضمنت هذه القصص الثلاث، من فصيح المحاورة بذكر: قال، سؤالًا وجوابًا، وغير ذلك من غير عطف، إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلاَّ إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه.
أما إذا كان المعنى يدل على ذلك، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة أنى جاعل في الأرض خليفة}.
ومما جاء ذلك كثيرًا محاورة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسيأتي تفسير ذلك إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}.
التفسير: إنه سبحانه ذكر هاهنا قصصًا ثلاثًا؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور. فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه، عن مجاهد أنه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والمحاجة المغالبة بالحجة.
والضمير في {ربه} لإبراهيم، ويحتمل أن يكون لنمرود، والهاء في {أن آتاه} قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط، ولأنه يناسب قوله: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا} [النساء: 54]. وقال جمهور المفسرين: الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطةً وسعةً في الدنيا.
ومعنى أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكرًا له كقولك عاداني فلان لأني أحسنت إليه تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ويجوز أن يكون المعنى: حاج وقت أن آتاه. وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلابد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله، بصير بأعضائه وأحواله، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [المؤمنون: 12] {وهو الذي خلقكم من تراب} [غافر: 67] {ألم نخلقكم من ماء مهين} [المرسلات: 20] ويروى أن الكافر دعا حينئذٍ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال: أنا أيضًا أحيي وأميت. ثم للناس في هذا المقام طريقان: الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال: {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} قالوا: وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس. ولما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجبًا مضيقًا فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفًا؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح. لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس، فإن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه. وأيضًا دلالة الإحياء والإماتة على الحاجة إلى المؤثر القادر لكونهما من المتبدلات أقوى من دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد. وأيضًا إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب. وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا: إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك، والتزم الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب؟ ولما كانت هذه الأعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا: إن إبراهيم عليه السلام لما احتج بالإحياء والإماتة قال المنكر: أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية؟ أما الأول فلا سبيل إليه، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر.
فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب، وتناول السم يفضي إلى الموت، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم، وكانوا أصحاب تنجيم- بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك، لكن الحركات والاتصالات لابد لها من فاعل ومدبر، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات. قلت: وفيه أيضًا طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى. {فبهت الذي كفر} يقال: بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير، وبهت بالضم مثله. وقد قرئ بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال باهت ولا بهيت قاله الكسائي. {والله لا يهدي القوم الظالمين} فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتًا محجوجًا، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته.
القصة الثانية قوله سبحانه: {أو كالذي مر على قرية} ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى، والتقدير: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر، ونظيره من القرآن {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} [المؤمنون: 84، 85] ثم قال: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله} [المؤمنون: 186، 187] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل: لمن السموات؟ فقيل: لله. ومثله قول الشاعر:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وعن الأخفش: أن الكاف زائدة والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى الذي مر. وعن المبرد: أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر. واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلًا كافرًا. شاكًا في البعث لأن قوله: {أنى يحيي} استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن، ولأنه تعالى قال في حقه {فلما تبين له} وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلًا قبل ذلك. وكذا قوله: {أعلم أن الله على كل شيء قدير} وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلمًا ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عزير، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا.
ثم من هؤلاء من قال: إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحق. وقال وهب بن منبه: إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة. وقيل: هو عزير على ما يجيء. حجة هؤلاء أن قوله: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} يدل على أنه كان عالمًا بالله، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة. وأيضًا قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله: {قال كما لبثت} وفي قوله: {وانظر} {ولنجعلك} وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضًا. روي عن ابن عباس أن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير- ومنهم عزير وكان من علمائهم- فجاء بهم إلى بابل. فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدًا، فعجب من ذلك وقال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} أي من أين يتوقع عمارتها؟ لا على سبيل الشك في القدرة، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورًا. وكانت الأشجار مثمرة فتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير {كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك} من التين والعنب {وشرابك} من العصير لم يتغير. فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد. ثم قال: {وانظر إلى حمارك} فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله. فسمع صوتًا: أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحًا فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب، ثم العروق، ثم انبسط اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور من الجلد، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخر عزير ساجدًا فقال: {أعلم أن الله على كل شيء قدير} ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل، وقد كان يختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفًا من قراء التوراة وكان فيهم عزير. والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفًا. وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله.
وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس. وقال ابن زيد: هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت. ومعنى قوله: {خاوية على عروشها} ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط. والعروش الأبنية، والسقوف من الخشب، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل. ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله، وخوى بطن الحامل. وعلى بمعنى عن أي خاوية عن عروشها، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون {على عروشها} خبرًا بعد خبر كأنه قيل: هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة، وكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فياه من عروش الفواكه {فأماته الله مائة عام} لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية: {ثم بعثه} أي أحياه كما كان أوّلًا عاقلًا فهمًا مستعدًا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال أحياه لم تحصل هذه الفوائد. {قال كم لبثت} أي كم مدة؟ فخذف المميز. والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حيًا أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة {قال} بناء على الظن لا بطريق الكذب {لبثت يومًا أو بعض يوم} روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس. فقال قبل النظر إلى الشمس: يومًا. ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان سبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره {لم يتسنه} لم يتغير. وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه. وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير، وقولهم سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة. وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير، وقولهم أجرت الدار مسانهة. وقيل: أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى: {من حمإ مسنون} [الحجر: 26] أي متغير منتن. وإما من السنة أيضًا بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننة بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلًا.
وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تقضض. ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء السكت في الوقف. وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله لم يتسن أي الشراب بقي بحاله لم ينصب. فعلى هذا يكون قوله: {لم يتسنه} عائدًا إلى الشراب وحده، ويوافقه قراءةٍ ابن مسعود {فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن} وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحًا لأن يعود إلى الطعام وإلى الشراب جميعًا. فإن قيل: إنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام} كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك، ولكن قوله: {فانظر} يدل ظاهرًا على ما قاله من أنه لبث يومًا أو بعض يوم. فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل: {وانظر إلى حمارك} فرآه عظامًا نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقيًا، وما يمكن أن يبقى زمانًا طويلًا وهو الحمار غير باقٍ فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميمًا. وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله: {بل لبثت مائة عام}. {ولنجعلك آية} قال الضحاك: معناه أنه جعله دليلًا على صحة البعث. وقال غيره: كان آية: {للناس} لأن الله تعالى بعثه شابًا أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق. وقيل: إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية. وقيل: إن حماره لم يمت. والمراد وانظر إلى حمارك سالمًا في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الأيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير، وأما فائدة الواو في قوله: {ولنجعلك آية للناس} فقد قال الفراء: فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية، كان النظر إلى الحمار شرطًا وجعله آية جزاء، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام. بل المعنى: ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء. ومثله في القرآن كثير {وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون} [الأنعام: 105] {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75] {وانظر إلى العظام كيف ننشرها} بالراء المهملة أي كيف نحييها. وقرئ: {كيف ننشرها} من نشر الله الموتى بمعنى أنشرهم. ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط. وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله: {من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 79] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب. والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج. وكيف في موضع الحال من العظام والعامل فيه {ننشرها} لا {انظر} لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، وأن اللام فيه بدل من الكناية. وعن قتادة والربيع وابن زيد: أن العظام عظام هذا الرجل نفسه. قالوا: إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظامًا نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفًا كما ربطه، وزيف بأن قوله: {لبثت يومًا أو بعض يوم} إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة. وأيضًا قوله: {ثم بعثه} يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها، وقيل: هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم، وفاعل تبين مضمر تقديره {فلما تبين له} أن الله على كل شيء قدير {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله ضربني وضربت زيدًا أو التقدير: فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم. وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالًا. ومن قرأ: {اعلم} على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك. والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم {واعلم أن الله عزيز حكيم} قال القاضي: القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به، وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله: {فلما تبين له} فلا يحسن الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك. أما الإخبار عن أنه حصل فجائز. قلت: ليس هذا من باب الأمر بتحصيل الحاصل، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة، فإن من قدر على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادرًا على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة، ولهذا أوردت القضية كلية. نعم لو قيل: اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمرًا بتحصيل الحاصل، على أن ذلك أيضًا ممنوع فإن الأمر حينئذٍ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد، وذلك كقولك للمتحرك تحرك أي واظب على الحركة ولا تفتر. وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراءات السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى؟
القصة الثالثة قوله عم طوله {وإذ قال إبراهيم} التقدير: واذكر وقت قول إبراهيم.
وقيل: معطوف على قوله: {إلى الذي} أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم. وهاهنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيرًا في قصته بل قال: {أو كالذي مرّ على قرية} وهاهنا سمى إبراهيم لأن عزيرًا لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} وإبراهيم أثنى على الله أولًا بقوله: {رب أرني} وأيضًا إن عزيرًا استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه، وإبراهيم التمس ودعا بقول: {أرني} فأرى ذلك في غيره. ومعنى أرني بصرني. وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهًا. الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج: إنه رأى جيفة مطروحة على شط النهر، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر. فقيل: أو لم تؤمن؟ قال: بلى. ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضروريًا. الثاني: قال محمد بن إسحق والقاضي: إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوسًا وقتل آخر فقال إبراهيم: ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى} لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه، ويزول الإنكار عن قلوبهم. وري أن نمرود قال له: قل لربك يحيي وإلا قتلتك، فسأل الله ذلك، وقوله: {ليطمئن قلبي} أي بنجاتي من القتل، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني، وأن عدولي إلى غيرها كان بسبب جهل المستمع. الثالث: عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشرًا خليلًا، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السلام وقال: إلهي، ما علامة ذلك؟ فقال: علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل. فسأل الله إحياء الموتى فقال الله: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل لك. الرابع: لا يبعد أن يقال: إنه لما جاء الملك إلى ابراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولًا إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم. الخامس: لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من أولاده. السادس: أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال: إلهي، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح.
السابع: أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة. الثامن: لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة. وأما أن إبراهيم عليه السلام كان شاكًا في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه السلام وقوله: {بلى} اعتراف بالإيمان، وقوله: {ليطمئن قلبي} كلام عارف طالب لمزيد اليقين. والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه، والذي جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فذلك أنه لما نزلت هذه الآية قال بعض من سمعها: شك إبراهيم ولم يشك نبينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعًا منه وتقديمًا لإبراهيم على نفسه «نحن أحق بالشك منه» والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟ والاستفهام في قوله: {أولم تؤمن} للتقرير كقوله: ألستم خير من ركب المطايا؟ وأيضًا المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنًا بذلك عارفًا به، وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر. واللام في قوله: {ليطمئن} تتعلق بمحذوف أي ولكن سألت ليزيد قلبي سكونًا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال. وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين، هذا إذا قلنا: المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أما إذا قلنا: إن الغرض شيء آخر فلا إشكال {فخذ أربعة من الطير} عن ابن عباس: هنّ طاوس ونسر وغراب وديك. وفي قول مجاهد وابن زيد: حمامة بدل النسر {فصرهن إليك} بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك. وقال الأخفش: يعني وجههنّ إليك. وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك. وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا} وقيل: معنى صرهن قطعهن فلا اضمار. روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعًا من كل طائر، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله. فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثًا، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها. وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الله تعالى مثالًا قرب به الأمر عليه. والمراد ب {صرهن إليك} الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، ويؤكده قوله: {ثم ادعهن} أي الطيور لا الأجزاء {يأتينك سعيًا} وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية.
وأيضًا إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة. ولأن قوله: {على كل جبل منهنَّ جزءًا} دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد، ثم ظاهر قوله: {على كل جبل} جميع جبال الدنيا. فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل: فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع: أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع. وقال السدي وابن جريج: المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعة. أما قوله: {ثم ادعهنّ يأتينك سعيًا} فقيل: عدوًا ومشيًا على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة، وقيل: طيرانًا. ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى. وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشيًا كانت أو طيرانًا، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطًا على صحة الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيًا قادرًا على السعي والعدو. قال القاضي: دلت الآية على أنه لابد من البينة من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلًا قاطعًا على أن البنية ليست شرطًا للحياة. {واعلم أن الله عزيز} غالب على جميع الممكنات {حكيم} عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء. اهـ.